فرنسا وبريطانيا... التراجُع التكتيكي شيء والاستسلام شيءٌ آخر - ايجي سبورت

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
فرنسا وبريطانيا... التراجُع التكتيكي شيء والاستسلام شيءٌ آخر - ايجي سبورت, اليوم الأربعاء 16 يوليو 2025 04:11 صباحاً

ايجي سبورت - يقول الديبلوماسي الأميركي الشهير روبرت مورفي في مذكراته إن الرئيس الجمهوري الأميركي الأسبق دوايت ايزنهاور عمل بكل قوة في العام 1956 على فضّ التحالف بين فرنسا وبريطانيا، إبان العدوان الثلاثي على مصر، لأن هذا التعاون يُضرّ بمصالح الولايات المتحدة. وأشار إلى تبديل في أولويات واشنطن في حينها، حيث وضع هدف منع المشروع العربي الذي يلحظ القضاء على إسرائيل ووصل المغرب بالمشرق في الطليعة، ومن ثمَّ فكفكة تعاون الحليفين الفرنسي والبريطاني بما أمكن، وثالث الأهداف الاستراتيجية؛ محاربة المدّ الشيوعي.

 

لزيارة الدولة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بريطانيا بين 8 و 10 تموز/يوليو أهمية استراتيجية واسعة، وهي الأولى من نوعها بعد مرور 17 عاماً على زيارة الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، وقد وصفتها الصحافة البريطانية "بالتاريخية والملكية" ومن المؤكد أن دوافعها استثنائية من حيث التوقيت ومن حيث المضمون. ومثل هذه الزيارة تفرض وجود دعوة رسمية بريطانية، كما أنها تعبِّر عن قبول ورغبة فرنسيين. ولولا بعض الهفوات الشكلية التي حصلت بين ماكرون وزوجته السيدة بريجيت إبان فترة استقبال الملك تشارلز وزوجته لهما، لكانت رِفعة الزيارة اكتملت بكل جوانبها وأهدافها، علماً أن بعض الصحافة الفرنسية لا تعطِ أي أهمية "لنتعات" السيدة الفرنسية الأولى، وتعتبرها توزيع أدوار مع زوجها للفت الأنظار، وللدلالة على مكانة المرأة في فرنسا وعلى مدى احترام الرئيس لهذه المكانة.

 

دوافع الزيارة الملوكية تبلورت منذ أشهر، بمناسبة إطلاق الرئيس الأميركي دونالد ترامب سلسلة مواقف، تناولت قضايا تهمّ الأوروبيين، أو تُسيء لهم، لاسيما في قضايا الأمن وفي التبادلات التجارية، وفيها شيء من "تربيح الجميلي" على المساندة الدفاعية. ومن أسباب توقيت الزيارة ايضاً مواجهة الأخطار الداهمة التي تُهدِّد القارة من البوابة الشرقية بسبب حرب أوكرانيا ومن الخاصرة الجنوبية والشرق أوسطية بسبب الحروب العدوانية التي تشنها إسرائيل بدعم أميركي، كما لا يمكن إغفال أهمية استعادة التعاون بين ضفتي المانش، والتأكيد على أن الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي الذي حصل عام 2019، لا يفسد للجغرافيا السياسية قضية.

 

مجموعة من الرسائل الاستراتيجية بعثها الطرفان إلى مَن يهمه الأمر، وخصوصاً للولايات المتحدة الأميركية ولروسيا؛ ففي الاهتمام البروتوكولي البريطاني بالزيارة، رسالة. وفي إتاحة الفرصة لماكرون لإلقاء خطاب أمام البرلمان بغرفتيه (مجلس اللوردات ومجلس العموم) وفي القاعة الملكية في ويستمنستر، رسالة أخرى. وفي توقيع معاهدة الردع النووي لحماية أوروبا من أي تهديدات قصوى، رسالة إضافية من الطراز المتقدِّم. ولم ينس الملك شارل الثالث ولا رئيس الوزراء كير ستارمر التذكير بأهمية التعاون في مجال الذكاء الصناعي، وتأييد المشروع الكبير الذي أطلقته قمة باريس التي عقدت في شباط/فبراير الماضي لهذا الغرض، وأقرت استثمارات بما يزيد عن 300 مليار دولار، وكذلك إنشاء مركز بيانات ضخم في كامبراي شمال فرنسا، يمكنه منافسة "السيرفيرات" الأميركية العملاقة.

 

يمتلك البريطانيون مهارة فائقة في توليف المُناكفات الدولية، ومن المؤكد أن جزءاً من هذه التوليفات المعاصرة، فيها شيء من الرد على الحليف الأميركي اللدود، ومن هذه التوليفات تنظيم مؤتمر دولي لمساندة أوكرانيا، وتوقيع معاهدة تعاون استراتيجي بين لندن وكييف لمدة 100 عام، لتعويض ما يُحكى عن تخلي أميركي، لا سيما بعد إعلان الرئيس ترامب تغيير مواقفه من الحرب فيها، ومغازلته للصديق اللدود فلاديمير بوتين، رغم أن المؤشرات تؤكد نفاد المخزون البراغماتي الشخصي الترامبي الذي يغذِّي هذه الصداقة. وبصمات الهندسات البريطانية المُبدعة، واضحة في الاندفاعة الأوروبية الجديدة، ولو من خارج سياق معاهدة "ماستريخت"، حيث تشعُر القارة بتهديد يواجهها من الشرق، خصوصاً من روسيا، وبتهميش من الغرب الأميركي.

 

أما فرنسا التي تجاهد لتحقيق بعض المكانة على الخارطة الدولية، بعد خسارتها جزءاً كبيراً من نفوذها في أفريقيا، فهي تحتاج لشدّ العصب الأوروبي، للرد على الدعم الروسي لمناوئيها في غرب أفريقيا، وللخروج من مستنقع التجاهل الذي فرضه الرئيس ترامب على حلفائه وعلى أخصامه في الملفات الدولية الساخنة، خصوصاً في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، ولا يمكن لفرنسا أن تسمح بالاستخفاف بدورها في هذه البقعة الاستراتيجية من العالم، نظراً لمصالحها الكبيرة فيها، والغياب عنها فيه تهديد للأمن القاري الأوروبي.

 

حدث تراجع للتأثير الأوروبي خلال الحقبة القريبة الماضية في أماكن كثيرة من العالم، وكان ذلك من مصلحة الولايات المتحدة الأميركية والصين وبعض الدول النامية. وشعر الأوروبيون بتهميش واسع لمكانتهم الدولية، برغم أنهم يحتلون مقعدينِ دائمينِ في مجلس الأمن الدولي. والوثبة البريطانية – الفرنسية الجديدة، رسالة تأكيد برفض الرضوخ للواقع المؤلم الجديد، فالتراجع التكتيكي الذي تفرضه موازين القوى شيء، والاستسلام المرفوض شيءٌ آخر.    

 

-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.

أخبار ذات صلة

0 تعليق