عندما لا تتغير الحدود... لكن يتغير كل شيء... الشرق الأوسط بين استقرارِ الخرائط وانفجارِ النفوذ - ايجي سبورت

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
عندما لا تتغير الحدود... لكن يتغير كل شيء... الشرق الأوسط بين استقرارِ الخرائط وانفجارِ النفوذ - ايجي سبورت, اليوم الجمعة 18 يوليو 2025 04:06 صباحاً

ايجي سبورت - د. زياد ضاهر*

 

شهدت منطقةُ الشرق الأوسط منذ مطلع القرن العشرين سلسلةً من التحوُّلات الجذريّة التي أعادت تشكيلَ خريطتها السياسيّة والجغرافيّة، بدءاً من اتفاقيّةِ سايكس–بيكو، و الهزّاتِ الكبرى التي رافقت "الربيع العربيّ" وصولًا إلى أحداث ما بعد 7  تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

 

ومع تفاقم الصراع الدوليّ وتداخل الاستراتيجيّات الإقليمية والدولية، برزت تساؤلاتٌ حول مدى ثبات الحدود الجغرافيّة للدول، وعمّا إذا كانت هذه الحدود مقدّسةً أم أنها قابلة للتعديل ضمن هندسة مصالح القوى العظمى.

يقول هنري كيسنجر، الذي شغل منصبَ وزير خارجيّة الولايات المتّحدة الأميركيّة (1973–1977)، إنّ إعادةَ رسم الخرائط يتطلّب "توافقاً بين قوى كبرى"، وليس فقط انهياراً داخلياً لدولة معيّنة. ولنا مثالٌ قريبٌ على ذلك، حيث لم تُؤدِّ حروبُ العراق وسوريا واليمن حتى الآن إلى تغييرٍ رسميٍّ في الحدود الدوليّة، رغم انهيار السلطة المركزيّة في بعضها. وحتى التجربة اللبنانيّة بعد العام 1975، حيث تعمّقت الأزمة وانقسمت السلطة المركزيّة والجيش، بقي لبنان بحدودِه منذ الاستقلال.

"أحد أهمِّ ضمانات استقرار النظام الدوليّ هو ثباتُ الحدود، حتى لو لم تكن عادلةً أو منصفةً في الأصل"، هذا ما يقوله الباحثُ الجيوبوليتيكيُّ الأميركيُّ روبرت كابلان، حيث إنّ مجرد فتح الباب لتعديل الحدود، حتى بدعوى العدالة التاريخيّة أو الطائفيّة أو الإثنيّة، يُؤدّي إلى انفجارٍ لا يمكنُ احتواؤه في النظامِ العالميّ.

رغم هشاشة الكيانات السياسيّة في دول كسوريا والعراق وليبيا والسودان، بقيت الحدود الدوليّة على حالها. وفي هذا السياق، يشير الباحثُ الألمانيُّ فولكر بيرتس (شغل بيرتس منصب المدير التنفيذي لمعهد الشؤون الدولية والأمنية في برلين (SWP)) إلى أنّ القوى العظمى تُفضّل إدارة التفككِ الداخليّ "عبر الفدرلةِ أو الحكم الذاتيِّ أو تقاسم النفوذ"، بدلًا من الاعتراف بتغيير جغرافي رسميّ، لما له من تداعيات خطيرة على مناطقَ أخرى تعاني أيضاً من مطالبَ انفصاليّةٍ "مثل الباسك، وكاتالونيا، والقرم، وتايوان".

ما يحدثُ اليوم هو أنّ الحدود الجغرافيّة تبقى ثابتةً نظرياً ودولياً، لكنّ السيطرةَ الفعليّة على الأرض تتجزّأ. مثال العراق واليمن، هذه النماذجُ تُظهر ما يسمّيه المفكّر الروسي ألكسندر دوغين "ما بعد السيادة الجغرافيّة"، حيث تبقى الحدودُ ثابتةً، لكنّ النفوذ والسلطة يُعاد توزيعُها بحسبِ موازينِ القوى، لا الخرائط الرسميّة.

وفي موازاة ذلك، تتزايد التوقّعات، ويجري تداول ما يُروَّج على أنّه وثائق مُسرّبة أو خرائط خفيّة لتقسيم دول كلبنان وسوريا والعراق. غير أنّ هذه السيناريوات غالباً ما تكون أدوات تُستخدم في سياق الحرب النفسيّة والإعلاميّة، أو تصدر عن فئات رافضة لقراءة الواقع كما هو، فتتوسّل نظريّة المؤامرة لتفسيره.

رغم كلّ ما شهدته المنطقةُ من انهيارات، لا تزال الحدود الرسميّة لدول الشرق الأوسط ثابتة، ليس لأنّ واقع الحال لم يتغيّر، بل لأنّ القوى الدوليّة، وعلى رأسها الولايات المتّحدة وروسيا والصينُ والاتحاد الأوروبي، ترفضُ كلياً فكرةَ إعادة رسم الخرائط في غياب توافق دولي شامل.

لكنْ، هذا لا ينفي احتماليّة أن يُؤدّي تفاقم الصراع الدوليّ، خصوصاً في ظلِّ الحرب الروسيّة–الأوكرانيّة وحروب الشرق الأوسط، إلى إعادة فتح ملفِّ ترسيم الحدود، إذا ما اقترنَ بتفكك شامل لنظام ما بعد الحرب الباردة. عندها فقط، تُصبح سيناريواتُ التقسيم أو إعادة الدمج مطروحةً بقوّة.

غير أنّ سؤالاً جوهرياً يُطرحُ هنا: إذا كان تعديل الحدود سيجري بقرار من القوى الكبرى التي تملكُ الكلمة الفصل في النظام العالميّ، فهل هي حقاً بحاجة إلى إعادة ترسيم حدود دولة ما لتنفيذ سياساتها؟

الواقعُ يُظهر أنّ من يمتلك زمام القوّة الفعليّة يستطيعُ فرض سياساته داخل الحدود القائمة، دون أن يلجأ إلى تعديلها، لأنّ تغييرَ الحدود أشبهُ بلعبة الدومينو، يفتحُ باباً واسعاً للتفكّك المتتالي والانهيار التدريجيّ في أنحاء مختلفة من المعمورة، بدءاً من الشرق الأوسط، ووصولًا إلى تخوم آسيا وأوروبا.

من هنا، فإنّ استقرار الحدود ليس فقط ضمانةً للشرعيّة الدوليّة، بل أداةٌ في يد القوى المسيطرة نفسها لضبط النظام العالميّ وتفادي الانفلاتِ الشامل.

وما يعزّز هذا التوجّه، هو أنّ الحروب الحديثة لم تَعُدْ حروباً تقليديّة تستدعي تحريك الجيوش والخرائط، بل باتت حروباً متعدّدة الأوجه، تُستخدمُ فيها أدوات غير تقليديّة، قادرة على تحقيق أهداف استراتيجيّة دون الحاجة إلى تعديل جغرافيّ.

فالدولُ الكبرى، وعلى رأسها الولاياتُ المتّحدة، باتت تملكُ قدرات هائلة في اختراق الأنظمة والمؤسّسات والمجتمعات، سواءٌ عبر الاختراق السيبرانيّ، أو الحرب الإعلاميّة، أو الاقتصاديّة، أو الدفع باضطرابات داخليّة دون بصمات.

"المعلومةُ تسبق طلقة الرصاص"، هذا ما قاله الجنرالُ الأميركي المتقاعد ستانلي ماكريستال (أشرف على عمليّات عسكريّة واستخباريّة أسفرت عن العثور على الرئيس العراقيِّ السابق صدّام حسين وقتل أسامة بن لادن). والوقائعُ الأخيرةُ في الحروب الدائرة، من أوكرانيا إلى غزّة ولبنان واليمن والعراق وإيران، وصولًا إلى التوتّر الهندي–الباكستاني، تُؤكّد بما لا يدعُ مجالًا للشكّ أنّ القوّةَ لم تَعُد تُقاس بعدد الدبّابات، بل بسرعة السيطرةِ على سرديّة الصراع وتوجيه السلوك العام داخليًّا وخارجياً.

تالياً، فإنّ تغيير الحدود لم يَعُد أولوية أو ضرورة، بل قد يكون مُكلفاً وغير مُجد، في حين أنّ "إعادة هندسة الدول من الداخل" باتت أكثر فعاليّةً ومرونة، وأقلَّ ضجيجاً دولياً.

*باحث في العلاقات الدولية

-المقاربة الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية. 
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق