دعوا شعبي يعيش... مجدداً - ايجى نيوز

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
دعوا شعبي يعيش... مجدداً - ايجى نيوز, اليوم الأحد 3 أغسطس 2025 09:25 صباحاً

ايجى نيوز - فاروق غانم خداج
كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني 

في السابع عشر من آذار (مارس) عام 1978، وقف السفير اللبناني لدى الأمم المتحدة غسان تويني مخاطبًا مجلس الأمن الدولي بكلمة تاريخية دوّت في الأذهان:
"Let my people live!"
"دعوا شعبي يعيش!"

كانت صرخة رجل لا يفاوض باسم نظام، بل باسم وطن ممزق، وشعب تحت النار. لم تكن عبارته مجرّد استعارة دبلوماسية أو مرافعة سياسية، بل تعبيرًا مكثفًا عن معاناة شعبٍ يكاد يُنسى في ضجيج التوازنات الدولية. قالها يوم تبنّى مجلس الأمن القرار 425، الداعي إلى انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان فورًا، بعد اجتياحٍ بدأ في الرابع عشر من الشهر نفسه، وخلّف دمارًا ونزوحًا وقتلًا.

وبعد أكثر من أربعة عقود على تلك الكلمة التي شكّلت بصمة في تاريخ لبنان الدبلوماسي، يبدو المشهد الداخلي وكأن شيئًا لم يتغير، بل إنّ التحديات التي تواجه لبنان اليوم أكثر اتساعًا وتعقيدًا.
فما زالت إسرائيل تحتفظ بنقاط حدودية داخل الأراضي اللبنانية في الجنوب، وتواصل اعتداءاتها شبه اليومية، البرّية والجوية، في خرقٍ متكرر للسيادة الوطنية، ما يزيد هشاشة الوضع الأمني والسياسي على حدّ سواء.

لكن ما يفتّ في عضد اللبنانيين اليوم ليس فقط الخطر الخارجي، بل اختلال الداخل.
إن الانهيار الذي أصاب الدولة منذ العام 2019 لم يكن اقتصاديًا وماليًا فقط، بل أخلاقيًا وسياسيًا أيضًا. فالثقة بين المواطن ومؤسساته تآكلت، والطبقة السياسية، بمعظم أطيافها، عجزت عن إنتاج الحدّ الأدنى من الإجماع الوطني حول أولويات الناس، أو خطة خروج واقعية من الأزمة المتعددة الأوجه.

"دعوا شعبي يعيش" في هذه اللحظة التاريخية، لم تعد مجرد نداء لحماية الحدود، بل لاستعادة الكرامة والعدالة داخلها. نداء لوقف المسّ بلقمة العيش، وكرامة العامل، وهيبة المعلم، وأمن العائلة، ومستقبل الطالب.
لماذا تحوّل الحلم البديهي بحياة مستقرة إلى ترف؟
لماذا صار مطلب الكهرباء والماء والتعليم وظيفة الخارج لا الداخل؟
لماذا يُسأل اللبناني يوميًّا عن صموده بدلًا من أن يُسأل حكّامه عن مسؤوليتهم؟

لسنا بحاجة إلى أنبياء ولا أوصياء. نحتاج إلى رجال دولة، لا أمراء طوائف. إلى إدارة شفافة، لا إلى صفقات ظرفية. إلى إعلام حرّ، لا إلى منصّات تخويف وتضليل.
وإذا كان غسان تويني قد وقف وحده يومًا ليقول الحقيقة في وجه القوة، فإنّ واجبنا اليوم أن نقف صفًّا لقول الحقيقة في وجه التراخي، واللاقرار، والفراغ المتعمد.

هذا البلد لا ينقصه الذكاء، بل الإرادة. لا ينقصه الأمل، بل السياسة التي تحوّل الأمل إلى مشروع.
اللبناني الذي يصحو باكرًا للعمل في ظروفٍ قاهرة، والذي يُهاجر مضطرًا لا طوعًا، والذي يُعلّم أبناءه رغم تراجع الدولة، والذي يدفع ثمنًا باهظًا لمعارك لم يخترها — لا يُمكن أن يُقال له إنّ العجز قدر.

في هذه اللحظة الدقيقة، فإنّ تكرار عبارة "دعوا شعبي يعيش" ليس ترفًا بل ضرورة.
هو استدعاء للذاكرة لا للبكاء عليها، بل لاستلهامها في بناء رؤية جديدة.
هو نداء لنقل الصرخة من المنابر الدولية إلى مشروع داخلي يُعيد إنتاج الدولة على قواعد متينة:
حكم القانون، المحاسبة، المواطنة، وتكافؤ الفرص.

إننا لا ننكر التحديات الجسيمة المحيطة بنا، ولا التعقيدات الإقليمية التي تضغط على الواقع اللبناني، لكننا نرفض أن يُستعمل ذلك ذريعة دائمة لتعطيل الدولة، أو لمنع الناس من عيش حياة طبيعية في بلدهم.
فأي معنى للبنان إن لم يكن مكانًا يُحترم فيه الإنسان، وتُصان فيه كرامته، وتُعطى فيه الكفاءة فرصتها؟

لقد آن الأوان لإعادة الاعتبار إلى السياسة النبيلة، لا بصفتها صراع نفوذ، بل إدارة للمصلحة العامة.
آن الأوان لتجديد العقد الاجتماعي على أساس واضح:
السلطة تكليف لا تشريف، والموقع العام خدمة لا امتياز.
وآن الأوان قبل كل شيء أن نُسلّم بقيادة جيل جديد، نظيف الكفّ، واسع الرؤية، مؤمن بأنّ مستقبل لبنان لا يُبنى من رحم الحنين، بل من قرارات عقلانية، تُعيد للدولة وجهها.

فلتكن صرخة غسان تويني وثيقة حية، لا ذكرى عابرة.
ولنكن نحن شهودًا فاعلين، لا مجرّد مستمعين.

دعوا شعبي يعيش...
دعوه يعمل، ويبدع، ويتعلّم، ويبني، ويشارك في القرار، ويرى وطنه ملاذًا لا ممرًا.
دعوه يعيش، لا ليُعاد تدويره في دورات الخراب، بل ليؤسّس حقًا لدولة الإنسان.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق