نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"حدث في شارعي المفضل" والتوالد التخييلي للحكاية - ايجى نيوز, اليوم السبت 2 أغسطس 2025 09:34 صباحاً
ايجى نيوز - ينوع الروائي المصري محمد الفخراني خياراته الجمالية، ويعزز طاقات الوجود الإنساني داخلها باستمرار. وبدت علاقته بالرواية متخذة مسارات متجددة، بدأت بروايته اللافتة ( فاصل للدهشة)، وما أحدثته من جدل خلاق في المشهد الروائي المعاصر في العقد الأول من الألفية الجديدة، والتي وصفتها بأنها تعبير جمالي دالّ على ما سميته "هامش ما بعد القاع"، ثم اتخذت تجربته الإبداعية صيغا سردية، وتصورات جمالية منفتحة على طاقات التخييل، وخلق العالم البديل في الروايات التالية (ألف جناح للعالم، مزاج حر، أراك في الجنة، غداء في بيت الطباخة)، وغيرها.
في روايته الجديدة "حدث في شارعي المفضل"، والصادرة في القاهرة حديثا عن دار "العين"، ثمة وحدتان أساسيتان للسرد، تتمثلان في "الرسام الموهوب"، و"الفتاة الأرضية"، ودوما نجد الصفتين تتلازمان مع الموصوف، وتتبعانه هنا، فهو ليس رساما عاديا، وإنما الرسام الموهوب، وهي أيضا ليست أي فتاة، لكنها الفتاة الأرضية، فتصير الصفتان بذلك جزءا من البناء التخييلي والموضوعي للنص.
تتشكل الرواية من خمسة أقسام، أكبرها على مستوى المساحة الكمية للمتن السردي القسم الرابع ( يقع في ٨٠ صفحة)، وأقلها مساحة كمية القسم الخامس والأخير، والأقسام جميعها يتم تصديرها بعبارات مركزية داخل المتن السردي من قبيل تصدير القسم الثاني بما يشي بجوهره (كان أكثر شيء مرعب لي، أن اعتاد منظر إنسان يأكل إنسانا).
أما العناوين الفرعية التي تعد علامات على الفصول السردية فتأتي بسيطة، وغير متكلفة، بساطة آسرة تنفذ إلى الروح من قبيل (ابتسامة سهلة) التي تصف بها الساردة البطلة (الفتاة الأرضية) الرسام الموهوب ولوحاته الفاتنة، فضلا عن الطبيعة وما حولها.
تبدو الفتاة الأرضية باحثة عن ابتسامة سهلة، وهي بالأحرى تبحث عن جمال يغالب الخراب المحيط، حيث اختفاء الألوان، بداية من اللون الأصفر الذي تحبه، فتستعين بالرسام الموهوب، لنرى الأشياء تندثر من حولهما، ونرى طوفانا يقلب الأرض مجددا، ليس طوفانا في الحقيقة، لكنه المحو، محو ثم إثبات في نهاية الرواية، حيث عودة اللون الأصفر الذي اختفى، وعودة النوافذ التي أقفلت مجددا، والرسام الذي تجلى في هيئة جديدة.
تبدأ الرواية بالاختفاء، أو المحو، حيث اختفاء اللون الأصفر. وتبدو سردية الألوان حاكمة للحكاية، ومفجرة للمعنى داخلها، حيث تلوح ألوان (الأحمر، البرتقالي، البني،)، وغيرها.
ثمة نزوع إنساني يهيمن على الرواية، يبدو متماسكا مع المعنى الجوهري للكتابة نفسها، إذ يظل السؤال الأساسي الذي يبحث عنه الأدب، بتوصيف جورج لوكاتش، "ما هو الإنسان؟!"
وتبدأ هذه النزعة الإنسانية من الإهداء المغاير الذي ينطلق منه النص: "يا وجه كل إنسان، هل تعرف كَمْ أحبك؟"
في كل قسم من أقسام الرواية ثمة تصدير دالّ يخطه الكاتب، يعدّ علامة على جوهر الفصل السردي، ومؤشرا لتيمته المركزية، وبعض وقائعه، من قبيل ما نراه أيضا في العبارة التي تتصدر القسم الأول: "تَغَيَّرَ العالم... الألوان مَثَلًا، ارتَبَكَ حالها، خصوصا الأحمر والبُنِّي والبرتقالي".
غلاف الرواية. (دار العين للنشر)
الاستهلال الروائي
يستهل الكاتب روايته بفكرة تخييلية محضة، تجعل المتلقي في متن الحكاية المروية، حيث الفتاة الأرضية آخر من تبقى من البشر، بعد فناء العالم، أو بالأحرى بعد أن نصبح أمام عالم على شفا الهاوية، حيث يعم الجوع والقحط، ولذا يطلب الرسام الموهوب من الفتاة الأرضية أن تأكل قلبه حين يقرصها الجوع، ويبدو المفتتح السردي بمثابة الإجمال الذي يعقبه التفصيل الروائي، فالبداية كاشفة عن المتن المطرد في ما بعد. ولكن كيف سيكون ذلك، وكيف تتوالى الأحداث، وتتعدد المرويات؟ هنا تكمن اللعبة الفنية التي صاغها محمد الفخراني بحنكة الروائي المتمرس، ومهارة الموهوب الحقيقي: "أنا آخِر مَن تَبَقَّى من البشر. أوصاني أكثر إنسان أحبه بأن آكُل قلبه. الأصفر لوني المُفَضَّل. أتنقَّل في العُمْر، أستيقظ من نومي فأجد نفسي انتقلْتُ في عُمْري عشر سنوات مَثَلًا للوراء، أو خمسًا للأمام. أُفَضِّل المَشي عن الطيران. يمكنني الطيران، لكني لن أتكلَّم عن هذا الآن. أعود بكم إلى أوَّل كلامي: أنا آخِر مَن تَبَقَّى من البشر. اختفى وجه الأرض، لم يتبقَّ منه غير مساحة يقف عليها بيت طيني أعيش فيه، وحدي، لا إنسان أو حيوان أو طائر أو بحر أو نهر أو صحراء أو شارع. أنا والبيت الطيني كل كوكب الأرض، حَرفيًّا، كل الكوكب.كيف نجوتُ وعِشتُ كل هذه السنوات؟ كيف اختفت الأرض؟ البداية كانت مع اختفاء اللون الأصفر".
جدل خلّاق
تحب الأرضية اللون الأصفر، بينما يحب الرسام اللون البني، وتبدو العلاقة بينهما جدلية باستمرار، يدفعان معا بالسرد الروائي إلى الأمام، يبدوان مثل شقيقين في شرك محنة كونية مذهلة، ويبدو مشهد قضم الذراع، مدهشا، حيث لعبة تبادل الأدوار بينهما، فكل منهما حريص على حياة الآخر، وأن يقدم نفسه فداء له.
يصير البيت الطيني هو العالم نفسه، وتصير الحياة هي ما يعاينانه في مساحة جغرافية محدودة، وفي لحظة مفصلية متخيلة من عمر الأرض. يوصي الفنان الموهوب الفتاة الأرضية بألا تتردد في أن تأكل قلبه، بعد أن يرحل، وتتعجب الفتاة الأرضية من كونه يعرف أنه سيتركها أولا، فتبدو وحيدة، تائهة، تجبه عالما موحشا، تواجه فيه الفقد بالذكرى.
طاقات التخييل
يفسح الكاتب الطريق أمام طاقات التخييل الممتدة، وينفذ إليها عبر آلية الاحتمال، أو بعبارة أخرى مكثفة: ماذا لو حدث كذا؟ ويبدو هذا ماثلا في توظيف سردية الألوان داخل الرواية، واستنفاد طاقات التخييل في شأن اختفائها: "بعد اختفاء اللون الأصفر تَغَيَّرَ العالم، لا أقول فَقَدَت الكائنات النُّطق، أو تكسَّرَت الأشجار بمكانها، ولكن تَغَيَّر العالم. الألوان مَثَلًا، ارتَبَكَ حالها، خصوصا الأحمر والبُنِّي والبرتقالي.
كلنا رأينا البرتقالي يمشي ضائعًا في الشوارع، تَناقلنا صورًا له على الإنترنت، أظنّكم لم تنسوا الصورة الشهيرة: البرتقالي واقف في منتصف الشارع، يتطلَّع بوجهه كله إلى السماء، فمه مفتوح قليلًا ومُتهدِّل إلى أسفل، وخطَّان برتقاليَّان يسيلان من جانبَي عينيه. والأحمر، تَذكرون قصَّته؟ شاحب يتنقَّل بين المقاهي والمطاعم ووسائل المواصلات ومَحالّ الملابس، يُفتِّش ملابسنا وجيوبنا، ويرجو البنات والنساء ليَفْتَحن له حقائبهن الشخصية ربما فيها شيء مَنسيّ يخُصُّ الأصفر. والبُنِّي، جاءني وقال لي إنه يعرف أني ألبس القطعتَين الداخليتَين باللون الأصفر كل يوم أربعاء، ولن يُصَدِّق أنه اختفى من العالم إلا لو كشفْتُهما له ليَرى بنفسه، تَفَهَّمْتُ حالته وإصراره، كشفْتُ القطعتَين وأنا أُمَنِّي نفسي رغم معرفتي، ولم نجد أيّ أصفر، آسفة جدًّا يا بُنِّي... لي ولك".
ثمة حيوات متعددة تحياها الفتاة الأرضية، تتداخل، وتتقاطع، مثل حياتها ما قبل المجاعة أو الحرب، وكلاهما ظل إلى النهاية في الرواية، وحياتها في البيت الطيني، بدت عجوزا ثمانينية، أو فتاة عشرينية، وفي كل منهما تبدو جدارة الرواية في قدرتها على خلق التوالد التخييلي للحكاية، متكئة على تعدد في أساليب السرد، وتقنياته، ولغته الشفيفة والموجعة في الآن نفسه.
0 تعليق